بجواري اتخذت مقعدها، وحقلُ رؤيتها يُعاكِس حَقل رُؤيتي، كنتُ أرى فتاةً مُضحكةً تَرقُص بانهماك ويبدو أنها تُخطئ بينَ حينٍ وآخر في اتباعِ النغمة ويضيع منها إيقاع الأغنية بين سريع وبطيء وتهرب علامات الرُكوز، أما جارتي فقد كانت تحمسها وتصفق لها بكلِّ قوة، كنت أنظر إليها باستغرابٍ شديد لماذا تهتم بتشجيع تِلكَ الفَتاة ذاتِ الأداءِ التَائِه، تِلكَ التِي لا تحفظ الأغاني ولا تُرددها معَ الرَقصِ كقريناتها، وكُلّما زادت أخطائها كُلما زَادت حَماسَاً في تشجِيعها حتى كادت أن تهب لِترقُص مَعها، لم أستطِع ضبطَ ضِحكتي فَرأيت انزعاجاً ينسدل ُ على وجهها حتى انقلب إلى اصفرار وكأنها ميتٌ يخرُج من كفن، سألتها ما بكِ؟ فلم تجب، فرحتُ ألحُ بالسؤال، ما بكِ أرجوكِ أخبريني؟ سحبتني من يدي إلى زاوية الصَالة وطَلبت مِني أَن أَصُمّ أذنيَّ وأنْ أحاوِلَ الرقصَ على الألحانِ بدونِ سماعِها، أخبرتها أنني لم أفهم بعدُ ما ترمي إليه، فابتسمت واضعةً يدها على أذنيّ لتحجب عني السمع تاركة لي حاسة البصر، لأفهم من حركات شفتيها أنها تطالِبني بِالرقص، وبالطبع لم أَقدِر! فرفعت يديها عن أذنيّ معيدةً لي سمعي قائلة: تِلكَ التي أضحكتك صماءٌ يا صديقي فقدت سمعها وهي فِي الخامسة من عمرها وذنبها أنها كانت فقيرة وإن كانت ترقص الآن فهي ترقص مراقبةً حركات من حولَها. حلّق الصمت وغابت الموسيقى والألحان والراقصة، بل غاب عني السمع والنطق، فاقداً كل حواسي. ودامَ صمتي وصممي لأيام كان ذلك درسيَ الأكبَر فِي الحَياة، حتى اتهمني بعضهم بأنني دِبلوماسي بمبالغة، واعتقد آخروُن بأنني أُمسِكُ دائماً العَصا مِن الوسط، فيما اعتبرها كثيرون حياديّة مُستَفِزّة، وتناسوا جميعاً أنني تعلمتُ درسِي فقبل النِقاش وقبل إطلاق الأحكام أحاوّل بكلِّ ما لديَّ أن أستمع لوجهة النظر المخالفة، وأَن أرى من المنظور المعاكِس، وأن أفهمَ مُعاناة الأخرين بل وأُحاول أن أحيّاها لو أمكنني ذلك، أن أقف في موقفه، أن أصمّ أُذنيَّ، وأتدرب على الرَقصِ مِن خِلال فهم حركات الآخرين، حتى لو لم أكن أتقن ذاك الإيقاع أو كان ذلك الايقاع غير مستساغٍ على ذائقتي. تعلمت منك يا عزيزتي ومن صديقتك الاستثنَائِية أنّ شخصيتنا الحقيقية لن تنمو وتَتَشبَع ما لَم نتَعلّم كيف نحترِم الآخرين، ولن نكون وَاعينَ لأفكَارِنا ومُعتقَداتِنا بحقٍ حتى نُمسك بِزمامِ القُدرة للتعرف على قيّم ومعتقداتِ ومعاناة الآخرين، وأن نتقن تَقبُلَهّا دونَ حاجة لموافقتنا عليها، ألّا نطلق أحكامنا على مَا نَرى مِن تصرفاتٍ دون أن نفهم من أي زاوية يرى من يقوم بها، هذا الوعي سَيُسَاعِدنا في توسيع آفاقِنا وتَعزِيز قُدراتِنا على التفكير بطريقة منهجية ورومانسية وعلى الابتكار بشكلٍ فريد ونوعي. هذا الوعي هو ما يصبغ علينا صفة “الإِنسَانِيّة”.
23 سبتمبر 2024/
No Comments
ارتفع عدد القتلى في لبنان جراء الغارات الإسرائيلية التي استهدفت المناطق الجنوبية والشرقية من البلاد، بالإضافة…